كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث أنَّ كلًا بدلٌ مِنْ ن في إنَّا، لأَنَّ كلًا قد وَلِيَتْ العوامِل فكأنه قيل: إنَّ كلًا فيها.
وإذا كانوا قد تأوَّلوا قولَه:
حَوْلًا أَكْتعًا

وقوله:
وحَوْلًا أَجْمعا

على البدلِ مع عدم تصرُّفِ أكتع وأَجْمع فلأَنْ يجوزَ ذلك في كل أَوْلَى وأَحْرى. وأيضًا فإنَّ المشهورَ تعريفُ كل حالَ قَطْعها. حُكي في الكثير الفاشي: مررتُ بكلٍ قائمًا وببعض جالسًا، وعزاه بعضُهم لسيبويه. وتنكيرُ كل ونصبها حالًا في غايةِ الشذوذ نحو: مررت بهم كلًا أي: جميعًا. فإن قيل: فيه بدلُ الكل من الكل في ضمير الحاضر، وهو لا يجوز. أجيب بوجهين، أحدهما: أن الكوفيين والأخفشَ يَرَوْن ذلك، وأنشدوا قولَه:
أنا سيفُ العشيرةِ فاعْرِفوني ** حُمَيْدًا قد تَذَّرَّيْتُ السَّناما

فحُميدًا بدل من ياء اعرِفوني، وقد تأوَّلَه البصريون على نصبه على الاختصاص. والثاني: أن هذا الذي نحن فيه ليس محلَّ الخلافِ لأنه دالٌّ على الإِحاطة والشمول. وقد قالوا: إنه متى كان البدل دالًا على ذلك جاز، وأنشدوا:
فما بَرِحَتْ أقدامنا في مكانِنا ** ثلاثتِنا حتى أُزِيْرُوا المنَائيا

ومثلُه قولُه تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، قالوا ثلاثتنا بدلٌ من ن في مكاننا لدلالتِها على الإِحاطة، وكذلك لأوَّلنا وآخِرنا بدلٌ من ن في {لنا} فلأَنْ يجوزَ ذلك في كل التي هي أصلٌ في الشمولِ والإِحاطة بطريق الأَوْلَى. هذا كلامُ الشيخِ في الوجه الثالث وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المبردَ ومكيًَّا نَصًَّا على أن البدلَ في هذه الآيةِ لا يجوزُ، فكيف يُدَّعَى أنه لا خِلافَ في البدلِ والحالةُ هذه؟ لا يُقال: إنَّ في الآية قولًا رابعًا: وهو أنَّ كلًا نعتٌ لاسم إنَّ وقد صَرَّح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا: هو نعتٌ لاسمِ إنَّ لأنَّ الكوفيين يُطْلقون اسمَ النعتِ على التأكيدِ، ولا يريدون حقيقةَ النعتِ. وممن نَصَّ على ما قلتُه من التأويلِ المذكورِ مكيٌّ رحمه الله تعالى، ولأنَّ الكسائيَّ إنما جَوَّز نعتَ ضميرِ الغائبِ فقط دونَ المتكلمِ والمخاطبِ.
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)}.
قوله: {يَوْمًا مِّنَ العذاب} في {يومًا} وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ ل {يُخَفِّفْ}. ومفعولُ {يُخَفِّفْ} محذوفٌ أي: يُخَفِّف عنا شيئًا من العذاب في يوم. ويجوز على رأي الأخفش أن تكون {مِنْ} مزيدةً، فيكون {العذاب} هو المفعولَ، أي: يُخَفف عنا في يوم العذاب. الثاني: أَنْ يكونَ مفعولًا به، واليوم لا يُخَفَّف، وإنما يُخَفَّفُ مظروفُه فالتقديرُ: يُخَفِّف عذابَ يومٍ. وهو قَلِقٌ لقولِه {من العذاب} والقولُ بأنَّه صفةٌ مؤكِّدةٌ كالحالِ أقلقُ منه. والظاهرُ أنَّ {مِن العذاب} هو المفعولُ ل {يُخَفِّف} و{مِنْ} تبعيضيَّةٌ، و{يومًا} ظرفٌ. سألوا أَنْ يخففَ عنهم بعضَ العذابِ لا كلَّه في يومٍ ما، لا في كلِّ يومٍ ولا في يومٍ معين.
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)}.
قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} قرأ الجمهور {يقوم} بالياء مِنْ أسفلَ. وأبو عَمْروٍ في روايةِ المنقريِّ عنه وابنُ هرمز وإسماعيل بالتاء مِنْ فوقُ لتأنيثِ الجماعةِ، والأشهادُ يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ شهيد ك شَريف وأَشْراف، وهو مطابِقٌ لقولِه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وأَنْ يكونَ جمعَ شاهِد ك صاحِب وأصحاب، وهو مطابِقٌ لقولِه: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45].
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}.
قوله: {يَوْمَ} بدلٌ مِنْ {يوم} قبلَه أو بيانٌ له، أو نُصِب بإضمار أَعْني. وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه {يَنْفَع الظالمين} بالتاء والياء آخر الروم.
{هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)}.
قوله: {هُدًى وذكرى} فيهما وجهان، أحدهما: أنهما مفعولٌ مِنْ أجلهما أي: لأجلِ الهدى والذَّكْر. والثاني: أنهما مصدران في موضعِ الحالِ.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}.
قوله: {لِذَنبِكَ} قيل: المصدرُ مضافٌ للمفعولِ أي: لذنب أمَّتِك في حَقِّك. والظاهرُ أنَّ اللَّهَ يقولُ ما أرادَ، وإنْ لم يَجُزْ لنا نحن أَنْ نُضيفَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم ذنبًا.
{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)}.
قوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} المصدران مُضافان لمَفْعولِهما. والفاعلُ محذوفٌ وهو اللَّهُ تعالى. ويجوزُ أَنْ يكونَ الثاني مضافًا للفاعلِ أي: أكبرُ ممَّا يَخْلُقُه الناسُ أي: يَصْنَعونه. ويجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْن واقعَيْن موقعَ المخلوقِ أي: مَخلوقُهما أكبرُ مِنْ مَخْلوقهم أي: جُرْمُها أكبرُ مِنْ جُرْمِهم.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)}.
قوله: {وَلاَ المسيءُ} لا زائدةٌ للتوكيدِ لأنه لَمَّا طالَ الكلامُ بالصلة بَعُدَ قَسِيْمُ المؤمنين، فأعاد معه {لا} توكيدًا. وإنما قَدَّم المؤمنين لمجاوَرَتهم قولَه: {والبصير} واعلَمْ أنَّ التقابلَ يجيْءُ على ثلاثِ طرقٍ، أحدُها: أَنْ يجاوِرَ المناسبُ ما يناسِبُه كهذه الآيةِ. والثانية: أَنْ يتأخَّرَ المتقابِلان كقولِه تعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} [هود: 24]. والثالثة: أن يُقَدِّمَ مقابلَ الأولِ، ويُؤَخِّرَ مقابلَ الآخر، كقولِه تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} [فاطر: 19] وكلُّ ذلك تَفَنُّنٌ في البلاغة. وقَدَّم الأعمى في نَفْيِ التساوي لمجيئِه بعد صفةِ الذم في قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.
قوله: {تَتَذَكَّرون} قرأ الكوفيون بتاء الخطاب، والباقون بياءِ الغَيْبة. فالخطابُ على الالتفاتِ للمذكورَيْن بعد الإِخبار عنهم، والغيبةُ نظرًا لقولِه: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ} وهم الذين التفتَ إليهم في قراءةِ الخطاب.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)}.
قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} العامَّةُ على الرفعِ، وزيد بن علي نصبَه، قال الزمخشري: على الاختصاص. وقرأ طلحة بيَاءِ الغيبة.
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)}.
قوله: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ} أي: مثلَ ذلك الإِفك.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)}.
قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} قرأ أبو رزين والأعمش: {صِوَرَكم} بكسر الصاد فِرارًا من الضمة قبل الواوِ، وقرأَتْ فرقةٌ بضم الصادِ وسكونِ الواو وجَعَلْته اسمَ جنسٍ لصورةٍ كبُسْرٍ وبُسْرَة.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)}.
قوله: {الذين كَذَّبُواْ} يجوز فيه أوجه: أَنْ يكونَ بدلًا من الموصول قبلَه، أو بيانًا له، أو نعتًا، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أو منصوبًا على الذمِّ. وعلى هذه الأوجهِ فقولُه {فسوف يعلمونَ} جملةٌ مستأنفةٌ سِيقَتْ للتهديدِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدًا، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه {فسوف يَعْلَمون} ودخولُ الفاءِ فيه واضحٌ.
{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)}.
قوله: {إِذِ الأغلال} جَوَّزوا في {إذ} هذه أَنْ تكونَ بمعنى إذا لأنَّ العاملَ فيها محقَّقُ الاستقبالِ، وهو {فسوف يَعْلمون} قالوا: وكما تقع إذا موقعَ إذ في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] كذلك تقع إذ مَوْقِعَها، وقد مضى نحوٌ من هذا في البقرة عند قوله: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة: 165]. قالوا: والذي حَسَّن هذا تَيَقَّنَ وقوعَ الفعلِ فأُخْرِجَ في صورةِ الماضي. قلت: ولا حاجةَ إلى إخراجِ إذ عن موضوعِها، بل هي باقيةٌ على دلالتِها على المضيِّ، وهي منصوبةٌ بقولِه {فسوفَ يَعْلَمون} نَصْبَ المفعولِ به أي: فسوف يعلمونَ يومَ القيامة وَقْتَ الأغلالِ في أعناقِهم أي: وقتَ سببِ الأغلالِ، وهي المعاصي التي كانوا يَفْعَلونها في الدنيا كأنَّه قيل: سيعرفون وقتَ معاصيهم التي تجعل الأَغلالَ في أعناقِهم. وهو وجهٌ واضحٌ، غايةُ ما فيه التصرُّف في إذ بجَعْلِها مفعولًا بها، ولا يَضُرُّ ذلك؛ فإنَّ المُعْرِبين غالِبُ أوقاتِهم يقولون: منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدرًا ولا يكون حينئذٍ إلاَّ مفعولًا به لاستحالةِ عملِ المستقبل في الزمنِ الماضي. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ منصوبًا ب اذْكُرْ مقدَّرًا أي: اذكُرْ لهم وقتَ الأغلالِ ليخافوا ويَنْزَجِروا. فهذه ثلاثةُ أوجهٍ، خيرُها أوسطُها.
قوله: {والسَّلاسِلُ} العامَّةُ على رَفْعِها. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه معطوفٌ على الأغلال، وأخبر عن النوعَيْن بالجارِ، فالجارُّ في نية التأخير. والتقديرُ: إذ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأولِ عليه. الثالث: أنه مبتدأٌ أيضًا، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه {يُسْحَبُون}.
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يعودُ عليه منها. والتقديرُ: والسَّلاسل يُسْحَبُون بها حُذِفَ لقوةِ الدلالةِ عليه. فَيُسْحَبُون مرفوع المحلِّ على هذا الوجهِ. وأمَّا في الوجهَيْن المتقدِّمين فيجوز فيه النصبُ على الحالِ من الضمير المَنْوِيِّ في الجارِّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفًا.
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختيارِه {والسلاسلَ} نَصْبًا {يَسْحَبون} بفتح الياءِ مبنيًّا للفاعلِ، فيكون {السلاسلَ} مفعولًا مقدمًا، ويكونُ قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. قال ابن عباس في معنى هذه القراءة: إذ كانوا يَجُرُّوْنها، فهو أشدُّ عليهم يُكَلَّفون ذلك، ولا يُطيقونه.
وقرأ ابنُ عباس وجماعةٌ {والسلاسلِ} بالجرِّ، {يُسْحَبون} مبنيًّا للمفعولِ. وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ، أحدُها: الحَمْلُ على المعنى تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسلِ، فلمَّا كان معنى الكلام ذلك حُمِل عليه في العطف. قال الزمخشري: ووجهُه أنه لو قيل: إذ أعناقُهم في الأغلال، مكانَ قوله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} لكان صحيحًا مستقيمًا، فلمَّا كانتا عبارتين مُعْتَقِبتين حَمَلَ قولَه: {والسلاسل} على العبارةِ الأخرى.
ونظيرُه:
مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً ** ولا ناعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرابُها

كأنه قيل: بمُصْلحين وقُرِئ {بالسلاسِل}.
وقال ابن عطية: تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسِل، فعُطِفَ على المرادِ من الكلام لا على ترتيبِ اللفظِ، إذ ترتيبُه فيه قَلْبٌ وهو على حَدِّ قولِ العرب أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي. وفي مصحف أُبَيّ {وفي السلاسل يُسْحَبُونَ}. قال الشيخ بعد قولِ ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ المتقدِّم: ويُسمَّى هذا العطفَ على التوهُّم، إلاَّ أنَّ تَوَهُّمَ إدخالِ حرفِ الجرِّ على مُصْلِحين أقربُ مِنْ تغييرِ تركيب الجملةِ بأَسْرها، والقراءةُ مِنْ تغييرِ تركيبِ الجملةِ السابقة بأَسْرِها. ونظيرُ ذلك قولُه:
أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ** ولا بَيْداءَ ناجيةً ذَمُوْلا

ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ** ببعضِ نواشِغِ الوادي حُمُوْلا

التقدير: لستَ براءٍ ولا متداركٍ. وهذا الذي قالاه سَبَقهما إليه الفراء فإنه قال: مَنْ جَرَّ السلاسل حَمَله على المعنى، إذ المعنى: أعناقُهم في الأغلال والسلاسل.
الوجه الثاني: أنه عطفٌ على {الحميم} فقدَّم على المعطوف عليه، وسيأتي تقريرُ هذا. الثالث: أن الجرَّ على تقدير إضمار الخافِضِ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبيّ {وفي السلاسل} وقرأه غيرُه {وبالسلاسل} وإلى هذا نحا الزجَّاج. إلاَّ أنَّ ابنَ الأنباري رَدَّه وقال: لو قلتَ: زيد في الدارِ لم يَحْسُنْ أَنْ تُضْمَر في فتقول: زيدٌ الدارِ ثم ذكر تأويلَ الفراء. وخَرَّج القراءةَ عليه ثم قال: كما تقول: خاصَمَ عبدُ الله زيدًا العاقلَيْن بنصب العاقلين ورفعِه؛ لأنَّ أحدَهما إذا خاصمه صاحبه، فقد خاصمه الآخرُ. وهذه المسألةُ ليسَتْ جاريةً على أصول البصريين، ونَصُّوا على مَنْعها، وإنما قال بها من الكوفيين ابنُ سعدان. وقال مكيٌّ: وقد قُرِئَ {والسلاسلِ} بالخفضِ على العطف على الأَعْناق وهو غَلَط؛ لأنه يَصير: الأغلال في الأعناق وفي السلاسل، ولا معنى للأغلال في السلاسل. قلت: وقوله على العطفِ على الأعناقِ ممنوعٌ بل خَفْضُه على ما تقدَّم. وقال أيضًا: وقيل: هو معطوفٌ على {الحميم} وهو أيضًا لا يجوزُ؛ لأنَّ المعطوفَ المخفوضَ لا يتقدَّم على المعطوفِ عليه، لو قلت: مررتُ وزيدٍ بعمروٍ لم يَجُزْ، وفي المرفوع يجوزُ نحو: قام وزيدٌ عمرو ويَبْعُد في المنصوب، لا يَحْسُنُ: رأيتُ وزيدًا عمرًا ولم يُجِزْه في المخفوض أحدٌ.
قلت: وظاهرُ كلامِه أنه يجوزُ في المرفوع بعيدٌ، وقد نصُّوا أنه لا يجوزُ إلاَّ ضرورةً بثلاثة شروطٍ: أن لا يقعَ حرفُ العطفِ صدرًا، وأَنْ يكونَ العاملُ متصرفًا، وأَنْ لا يكونَ المعطوفُ عليه مجرورًا، وأنشدوا:
عليكِ ورحمةُ اللَّهِ السَّلامُ

إلى غيرِ ذلك من الشواهدِ، مع تَنْصيصِهم على أنه مختصُّ بالضرورة.
والسِّلْسِلَةُ معروفةٌ. قال الراغب وتَسَلْسَلَ الشيءُ: اضطرَبَ كأنه تُصُوِّرَ منه تَسَلُّلٌ مترددٌ، فتَرَدُّدُ لفظِه تنبيهٌ على تردُّد معناه. وماءٌ سَلسَلٌ متردد في مقرِّه. والسَّحْبُ: الجرّ بعنفٍ، والسَّحابُ من ذلك؛ لأنَّ الريحَ تجرُّه، أو لأنه يجرُّ الماءَ. وسَجَرْتُ التنُّورَ أي: ملأتُه نارًا وهَيَّجْتُها. ومنه البحر المَسْجُور أي: المملوء. وقيل: المضطرِمُ نارًا. قال الشاعر:
إذا شاءَ طالعَ مَسْجُوْرَةً ** تَرَى حَوْلَها النَّبْعَ والشَّوْحَطا

فمعنى قوله تعالى هنا: {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} أي: يُوْقَدُ لهم، كقوله: {وَقُودُهَا الناس} [البقرة: 24] والسَّجِيْرُ: الخليلُ الذي يُسْجَرُ في مودَّةِ خليلِه، كقولهم: فلان يحترق في مودةِ فلان.